الأربعاء، 7 يونيو 2017

مسائل متفرقة في لزوم بعض الألفاظ وتعديها

نُشر مفرَّقًا في تويتر وفسبك وآسك وملتقى أهل اللغة في أوقات مختلفة.
- س: خطّأ بعضهم استعمال (عن) في نحو (قال عنه البخاري: منكر الحديث). والصواب عنده أن يقال: (قال فيه البخاري: منكر الحديث)، فما رأيك في هذا؟
ج: كلاهما صحيح لأن مبنى معاني حروف الجر في رأيي على القياس، فإذا قلت: (قال في هذا الرجل كذا) فعلى أن المراد (قال في شأن هذا الرجل) فحُذف (شأن) لدلالة السياق عليه. ومثله قوله تعالى: ((يحاجون في الله)) و((يجادل في الله)) و((هاجروا في الله)). ويكون الشأن ظرفًا لوقوع القول.
وإذا قلت: (قال عن الرجل كذا) فـ(عن) هنا نظير (عن) في (تحدث عنه) ومثله: (ألفت كتابًا عنه). وكل ما يمكن وضع كلمة (موضوع) فيه مكان (عن) فـ(عن) فيه صحيحة، ألا ترى أنك تقول في (تحدثت عنه): (تحدثت، موضوع حديثي هو). وكذلك (قال عنه). ومعنى (عن) فيه للمجاوزة لأن من يتحدث مثلًا في رجل ما عند غيره فإنه يكون منصرفًا عنه لإقباله على المحدَّث. وبهذا يتحقق معنى المجاوزة.
-
س: أيجوز أن يقال: (اتصلت عليك) فيُعدّى بـ(على)؟
ج: لا يجوز أن يتعدَّى (اتّصل) بـ(علَى) على جهةِ الحقيقةِ، لأنَّ معنَى (الاتصال) (الالتقاء والارتباط)، وهو معنًى لا تلائمه (علَى) الدالَّة على الاستِعلاء، وذلك أن الاتصالَ لا يقعُ على المتعدَّى إليه بالحرف لا حقيقةً ولا مَجازًا. فلمَّا كانَ (الاتصال) لا يقبلُ هذا وكانَ تحقُّقُه قائِمًا على طرفٍ آخرَ يلتقي به ويلتصِقُ كانَ تعدِّيه بالباء الدالَّة على معنَى (الإلصاق).
وإذن لا يجوز إلا (اتصلتُ به).
- س: أيقال: (تعرّفتُ على الشيء) أم (تعرّفته) أم (تعرّفت إليه)؟
ج: يقال في هذا المعنى (عرفَه) و(تعرَّفه) و(تعرّف إليه). وبينهنّ فروقٌ.
أما (عرفَه) فمعناه أوقع المعرفة عليه فصار عنده معروفًا بعد إذْ كان مجهولًا.
وأمّا (تعرّفه) فمتعدّ إلى واحدٍ كـ(عرفَه)، بيدَ أنه مطاوع (عرّفه كذا) المتعدي إلى اثنين، ومنه قوله تعالى: ((عرّف بعضَه وأعرضَ عن بعضٍ)) وحذف المفعول الأول، فإذا قلتَ (تعرّفت الرجلَ) فكأن شيئًا ألقَى في رُوعِك طلبَ معرِفته فتطلّبتَها شيئًا فشيئًا حتى أدركتَها. وهي بهذا تفارق معنى (عرفه) لدلالة بناء (تفعَّلَ) على قَبول التكثيرِ. وعلى هذا جاء قول طَريف العنبري:

فتعرّفوني إنني أنا ذاكمُ ** شاكٍ سلاحيَ في الحوادثِ مُعلمُ

وتقول: (عرَفتُ المسألة) إذا فقِهتَها بسهولةٍ، و(تعرَّفتُ المسألة) إذا تكلّفتَ ذلك وحاولتَه حتى عرفتَها وأسمحَتْ لك.

أما (تعرَّف إليه) فهو مطاوع (عرَّفتُ الشيءَ) إذا جعلتَه معروفًا كقولك (عرّفتُ فلانًا فتعرَّف)، فإذا قلتَ: (تعرّفتُ) فمعناه (صرتُ معروفًا) فإذا وصلتَه بـ(إلى) فقلتَ: (تعرّفتُ إلى فلان) فمعناه صِرت معروفًا عنده. ومن المعلوم أن (إلى) تدُلّ في أصلِ وضعها على الغايةِ. وهي في هذا المثالِ لا تفيد هذا المعنى لأن الغائيّة إنما تصِحّ في الحدث الذي يقع على مكانٍ ممتدٍّ من الأرضِ يبدأ فيه من موضعٍ وينتهي عند موضعٍ آخر منه كـ(مشَى)، فإن المشي لا يتحقّق معناه حتّى يجري في رُقعة من الأرضِ. ولا يمكن أن يمشي الإنسان وهو ثابتٌ في مكانِه إلا في عصرنا هذا العجيبِ.
فمن هنا جاز أن تقول: (مشيتُ إلى المسجدِ) مثلًا.
والتعرُّف أي كونُ المرء معروفًا لا يصدُق عليه ما يصدُق على المشي ونحوِه، وإنما يُراد بـ(إلى) فيه الاتّجاهُ. وذلك من قِبَل أن الغايةَ تستلزِم هذا المعنَى لأن كلّ من قصدَ إلى شيءٍ وجعلَه غايتَه فلا بدّ أن يكون وجهُه إليه. وإذن فقولك: (سأتعرَّف إلى فلان) معناه سأكون معروفًا عند فلانٍ لا غيرِه، فأفادت (إلى) النسبة إليه. وهي في هذا نظير قولهم: (وقف إلى فلان، وجلس إليه)، فإن الوقوف والجلوس يقعان في مكان واحدٍ خلافًا للمشي، فـ(إلى) فيهما خارجةٌ عن معنى الغائية إلى الدلالة على القصد والاتجاه والنظر لأن هذه المعاني من لوازم الغائية كما بيّنتُ. وفي الحديث (تعرّف إلى اللهِ في الرّخاء يَعرِفك في الشدّة) أي اطلبْ أن تكون معروفًا عنده في الرخاء باتّباع أوامره واجتناب نواهيه ليعرفَك في الشدّة. وليس المعنى اعرِفِ الله في الرّخاء.
وإذن فقولك: (تعرّفت فلانًا) معناه عرَفته بعد التماس، فالتعريف واقع عليه. و(تعرّفت إلى فلانٍ) بمعنى صرتُ معروفًا بالنسبة إليه أو التمستُ أن أكون كذلك بتقديم نفسي إليه.
وقولهم: (تعرّفت عليه) كما يشيع عند المعاصرين خطأ لا يُسنده سماعٌ ولا قياسٌ.
- س: لم يتعدّى الشكّ والريب بـ(مِن) في كتاب الله تعالى؟
ج: لعلةٍ ما وجدنا الشك والريب والمرية تُعدّى بـ(مِن) في كتاب الله تعالى كقوله: ((وإننا لفي شك من ما تدعونا إليه مريب)) ((بل هم في شك منها)) ((بل هم في شك من ذكري)) ((وإن كنتم في ريب من ما نزلنا على عبدنا)) ((إن كنتم في ريب من البعث)) ((ولا يزال الذين كفروا في مرية منه)). وهذا غالبه في الحديث عن الكفّار. وذلك أن تعدية هذه الألفاظ بـ(في) وإن كان حسنًا صالحًا فليس يعدل تعديته بـ(من) لأن أصل معنى (من) الابتداء أي أن الحدث يبتدئ من مجرورها، فكأن الشكّ من الأمر والمرية منه يقضي بأن الشاكّ كأنما خرج من الأمر محلِّ الشكّ وفصل عنه فِعلَ المحاذر المتوجّس الذي يمنعه الارتياب والتردّد وسوء الظن أن يلج في الشيء ويفحص عن حقيقته، فهو لا يزال يرقبه عن عُرُض مزوارًّا عنه غير مخالط له ولا متعمّق فيه.
وكذلك فعلُ الكفّار، فإن شكّهم ومريتهم ليس من جنس الشكّ الذي يدعو إليه طلب الحقّ والرغبة في إصابته، بل هو في الحقّ شكّ نَفرة وصدود وإعراض.
- س: أيهما أفصح (إهداء لفلان) أم (إهداء إلى فلان)؟
ج: الأصل في الفعل (أهدى) أن يتعدّى بـ(إلى) فتقول: (أهديتُ إلى فلان هديّةً) كما قال الحماسيّ:
رسولَ امرئ يُهدي إليك رسالةً ** فإن معشرٌ جادوا بعرضك فابخلِ
وذلك أن معنَى الإهداء يقتضي أن يكون له غايةٌ مكانيّة ينتهي إليها، وهي المُهدَى إليه، لا يتحقّق هذا المعنى إلا بذلك لأن الهديّة تبدأ من المهدِي وتُجاوزُه حتّى تتّصِل بالمهدى إليه.
ولكن يجوز لك أن تقول: (أهديتُ له) باللامِ على تأويلينِ:
1- أن تريد باللام المِلْك لأنّ هذه الهديّة قد صارتْ بتناولِه لها مِلكًا له.
2- أن تكون دالّةً على الغايةِ كـ(إلى)، فتخرج بذلك عن أصلِ وضعِها لعلّةٍ مليحةٍ. وذلك أن اللامَ تجيء في أصلِ وضعها بمعنى التعليلِ، وغايةُ الشيءِ المكانيّة تستلزِم أن تكونَ أيضًا عِلّةً له، ألا ترى أنك إذا قلتَ: (سافرتُ إلى مكةَ) فـ(إلى) هنا غائيةٌ لأن معنى السفَر ينقطعُ إليها من جهةِ المكانِ، وهي أيضًا باللزومِ عِلّة للسفَر لأنّك لم تسافر ووجهُك إليها إلا من أجلِ أن تصلَ إليها، فكما أنها غايةٌ فهي أيضًا عِلّة وسببٌ، فلو قلتَ: (سافرت من أجل مكّة) لصحّ الكلام لأن قصدَها هو الذي بعثَك على إنشاء السفّر.
فلما كانَت الغائية تستلزِمُ التعليلَ جاز أن تَخرج اللامُ عن أصلِ وضعها وتطّرِدَ إفادتُها للغائيّة كما تفيدُها (إلى) فيتعاورَا في الدلالة على هذا المعنى فتقول: (سرت إليه وله، ومشيت إليه وله وذهبت إليه وله، وهَديته إلى الطريق وله). وقسْ على هذا.
وبينهما أيضًا وجوهٌ أخَرُ من التشابه لا يتّسع هذا الموضع لبسطها.
وهذه سبيلُ كلّ حرفٍ استُعمِل في غير معناه الأوَّل، فإنك لا بدّ أن تجِد له مخرجًا حسنًا سائغًا إن لمَستَه. ومعاذ اللهِ أن تكونَ الحروف قد تتناوَبُ اعتباطًا لغيرِ سرٍّ ولا مَغزًى كما يزعم الكوفيّون.
ومن شواهد ذلك قول الحماسي:
لَإن كان يُهدى بردُ أنيابها العُلا ** لأفقرَ مني إنني لفقيرُ
وإذن تقول: (إهداء إلى فلان) و(إهداء لفلان).
- (اختصَّ) لازم متعدّ، تقول: (اختصصتُه بالأمر فاختصّ هو). وعلى الوجهين حُمل قوله تعالى: ((والله يختص برحمته من يشاء)) بجعل (مَن) فاعلًا أو مفعولاً به.
- س: هل يجوز أن يقال: (هذا من ما يؤسَف له
ج: الوجه أن يقال: (من ما يؤسف عليه) كما قال تعالى: ((قال يا أسفَى على يوسف))، ولكن القياس يجيز (أسف له) كما يقال: (حزنت عليه وله)، و(بكيت عليه وله). وبينهما فرق دقيق ليس هذا موضع بسطه. واللام هنا تفيد معنى السببية. وهو راجع إلى معنى الاختصاص. والتعدية إلى أكثر من حرف جر مقيسة على الصحيح وليست قصرًا على السماع.
- س: هل يجوز تعدية الاعتذار بـ(عن) في نحو (اعتذر إليه عن هذا الذنب) مع أن المسموع تعديته بـ(مِن)؟
ج: تعدية الاعتذار بـ(من) و(عن) صحيحة قياسًا كما تقول: خرج منه وعنه وبعُد منه وعنه وانفصل منه وعنه ورحل منه وعنه وهرب منه وعنه وانصرف منه وعنه وهاجر منه وعنه وانفضَّ منه وعنه... إلخ. وذلكَ أنَّ كلَّ فعلٍ لازمٍ دالٍّ على معنَى الخروجِ أو الانفصالِ يجوزُ أن تعدِّيَه بـ(مِن) و(عن)، قالَ تعالى: ((ألئكَ عنها مبعَدون) ثم قال الشاعرُ:
* بعيدٌ من الآفاتِ طلاعُ أنجُدِ *
فإن عدَّيتَه بـ(مِن) فذلكَ أنك أردتَّ ذكرَ مبتدأ وقوعِ الحدثِ، وإن عديتَه بـ(عن) فذلك أنك أردتَّ ذكرَ أن ذهابَه وخروجَه كان إلى غيرِ الجهةِ التي فيها ما بعدَ (عن).
وقولك: (اعتذرَ) على هذا الحذوِ، ألا ترى أن الاعتذارَ طلبٌ للخروجِ عن اللومِ أو العقاب، فإذا قلتَ: (اعتذر عن ذنبه) فقد أردتَّ أنه التمس الخلاصَ والخروجَ من ذنبِهِ بتقديمِ العُذرِ. وإذا قلتَ: (اعتذر من ذنبه) فقد أردتَّ أن ابتداء عذرهِ كان من ذنبِه. ولا أجِدُ بينَهما فرقًا في الاستعمالِ وإن كانا يختلِفانِ في التأويلِ.
- (الاحتمال) متعدّ إلى واحد، و(التحميل) متعدّ إلى اثنين، تقول: (احتملت الشيء) كما قال تعالى: ((فاحتمل السيل زبدًا رابيًا))، و(حمّلتُه غيري) كما قالت الخنساء:
يحمّله القومُ ما عالهم ** وإن كان أصغرَهم مولدا
وعلى هذا تقول: (احتملت الملفّ) أو (حَمَلْته) إذا أردت الإخبار عن إنزاله في جهازك. ويجوز أيضًا أن تقول: (حمّلتُ الملفّ) بتضعيف الميم، على حذف المفعول الثاني، أي حمّلته جهازي بمعنى جعلتُ جهازي يحمله. والأول أجود لاستغنائه عن تقدير محذوف.
- (نظر) بمعنى (رأى) يتعدى بنفسه كما يتعدى بـ(إلى)، تقول: (نظره) كما تقول: (نظر إليه)، حكى ذلك بعضُ أصحاب المعاجم. وأصبت له شواهد من الشّعر. غير أن سيبويه منعَ تعديَه بنفسه إذْ لم يبلغه ذلك فقال: (وأنت لا تقول: نظرت زيدًا).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق